المرأة في الحقيقة ، ليست نصف المجتمع فحسب، بل هيّ أيضا والدة ومربية للمجتمع بأسره في مدرسته الأولى على الأقـلّ التي تطبعه إلى حد بعيد في بقية مراحل حياته. من هنا تأتي أهميّة و ضرورة العناية بالمرأة، بل وإعطاءها الأولويّة في ذلك على الرّجل. فالمرأة، على هذا الأساس، هيّ عماد المجتمع، فإذا ما وقعت العناية بها وإيلاءها ما يوافق قيمتها و أهـميّتها من الإعتبار الصّحيح و العناية الفائـقة، استقام المجتمع كله و صلح حاله . أمّا من أهملها و حطّ من قيمتها و إنسانيّتها وتجاهل وجودها كعضو فاعل في المجتمع، له قيمته المركزيّة، فقد هدم المجتمع أو على الأقـلّ، فقد أضرّ بالمجتمع ضررا بليغا.
بناء على ما تقدّم فإنّنا لا نحسب أنّ ما مرّت به عديد المجتمعات، قديما و حديثا، من تخلّف و انحطاط وانحلال، كان قد حصل لها بمعزل عمّا وقعت فيه من إهمال لوضعيّة المرأة و دورها فيها، و ما تعرضت له من إساءة خطيرة مخلّة بكرامتها وإنسانيّتها. و لو دقّقنا النّظر و التحليل لوضعيّة المجتمعات المتخلّفة و في أسباب تخلّفها لوجدنا أنّ ذلك، في جزء كبير منه، يعود إلى الطبيعة السيئة لوضعيّة المرأة فيها. فإذا كانت المرأة مهملة ومحتقرة، تعيش وضعيّة الدّنيّة والجهل والقهر وسحق للشخصيّة وعدم الاعتبار، فلا غرابة أن ينشأ الأبناء أيضا عل الجهل و ضيق الأفق و ضعف الشخصيّة و تذبذبها.
وإذا ما التحقوا بالمدرسة عند بلوغ سنّ التعليم، فإنّهم غالبا ما يبقوا مرشّحين للفشل في دراستهم، إذ أنّ النّجاح فيها لا يمكن أن يحصل إلاّ بتظافر الجهود بين البيت و المدرسة. و حتّى إذا ما نجحوا يبقى نجاحهم نسبيّا و منقوصا. بينما لو كانت الأمّ متوازنة الشخصية و متعلّمة و واعيّة فإنّه، فضلا عن حرصها الأشدّ على تعليم أبنائها وتربيّتهم تربيّة راشدة بمقدورها تلقينهم منذ الصّغر حبّ المعرفة و التّعلّم و ستكوّن فيهم أيضا سعة الأفق و كذلك منهجيّة أرحب في رؤية الكون وفي أسلوب التّعامل معه، بأفضل ما يستطيعه المعلّم في المدرسة.
وذلك لأهمّية ما يربط الطّفل، من علاقة خصوصيّة، بأمّه، تيسّر عمليّة التبليغ والتلقين بينها و بينه. فعمليّة التعليم والتربيّة تشبه إلى حدّ بعيد عمليّة الرّضاعة بل هيّ تواصل طبيعيّ لها إذا كانت الأمّ واعيّة و متعلّمة.
ونخلص ممّا سبق إلى أنّ المرأة هيّ نصف المجتمع عدديّا، وهي من ناحية أخرى عماده الأساسي و مدرسته و مربّيته الأولى. لذلك فإنّ العناية بالمرأة عناية جادّة، و إنزالها في المجتمع منزلتها التّي تستحقّها كأمّ و مربّية له، وعضو فاعل فيه، مثلها في ذلك مثل الرّجل، و إيلاؤها الإعتبار الكامل والمساواة بينها و بين الرّجل من حيث أنّهما يشتركان في قيمة الإنسانيّة، من شأنه أن يحقّق معنى العدل و النّديّة بينها و بين الرّجل . كما هوّ من شأنه أن يمكّن الجسم الإجتماعي من النّهوض بكلّ أعضائه وقوّاه وليس بنصفها فقط، لأنّ نصفها الثّاني، المتمثّل في المرأة، مشلول ومعطّل.
لقد ولّى الزّمان، في عالمنا الحديث، الذّي كانت فيه عوامل تحقيق التّنميّة و التّقدّم تكمن في استغلال سطح الأرض وما يوفّره لمستغلّيه من خيرات، و في بطنها وما تحتويه من كنوز و ثروات طبيعية، أو في وسائل و تقنيّات تمكّن من تحويل تلك الثّروات الخامّ إلى منتجات متطوّرة و متعدّدة تلبيّ أدقّ المطالب و الحاجيّات و تشبع عديد الرّغبات. إنّ الأرض و رأس المال تراجعت قيمتهما كعوامل إنتاج، و حلّ محلّهما في الصّدارة في عمليّة تحقيق التّنميّة والتّقدّم الرأس المال البشري وما يحمله من علوم و مهارات فائقة في استغلال المعطيات.
لقد غدا الذهن البشري وقدرته الفائقة على استيعاب الأشياء والمعطيات و طاقاته الواسعة على التّصرّف فيها و تحويلها، هوّ المنبع الأساسي لخلق الثّروة و تحقيق التّنميّة والتّقدّم، ممّا يعني أنّه قد غدا بإمكان المجتمعات المحرومة من كلّ أنواع الثّروات الطّبيعيّة و الماليّة أن تتحوّل بدورها إلى مجتمعات ناهضة متطوّرة، إذا ما أحسنت استغلال ثرواتها البشريّة الكاملة من رجال ونساء وقدراتها الذّهنيّة. وذلك إذا أحسنت تكوينها وتنوير الأذهان فيها، بالعلم والمعرفة، وتأهيلها للتّعامل بمهارة فائقة مع المعطيات، ومواكبة ركب تطوّر العلوم والمعرفة في العالم.
على هذا الأساس فإنّه لا يحقّ لمجتمعات نـّابهة أن تجمـّد نصف ثرواتها البشريـّة، المتمثّلة في المرأة، و تضحـّي بها فتهملها و تهمشها، و لا تعترف بها كعضو فاعل في المجتمع، له قيمته و أهمّيته و دوره المركزيّ فيه . إن ّ ذلك يكـلّفها خسائر فادحة على مستويات عدّة، و خاصّة على مستوى تنمـيّتها الإقتصاديـّة و ازدهارها العلمي و المعرفي و تقـدّمها على جميع المستويات، و يفـوّت عليها فرصا ثمينة في هذا المجال. وهذا الـشّلل الـنّصفي لا يتوقّف ضرره على الـنّصف المشلول فحسب، و إنّما يتعـدّاه إلى الـنّصف الآخر، الـرّجل. فهذا الأخير إذا كانت إلى جانبه امرأة متعلّمة واعيّة ومحـرّرة الـطّاقات و فاعلة في المجتمع، يكون هوّ أحسن عطاء و أرفع جدوى و مردوديّة مـمّا لو كانت إلى جانبه امرأة جاهلة، مجـمّدة الطّاقات محطّمة الشّخصيّة، معدومة الحضور والإعتبار في المجتمع. فالوضعيّة المتدنّية للمرأة في المجتمع لها تأثيرها السلبي على وضعيّة الرّجل، و لا تجذبها إلاّ إلى الخلف وإلى الأسفل.
إنّ مسألة تحرير المرأة، تحريرا صحيحا وليس استغلاليّا و دعائيّا فقط، هيّ مسألة جوهريّة و ملحّة للغاية في هذا الـزّمان، و ذلك لاعتبارات عـدّة. فتحريرها تحريرا حقيقيّا مسؤولا، كما تقتضيه إنسانيّتها، و رفع اليد عنها و الكفّ عن ظلمها و استغلالها، هـوّ مطلوب قبل كلّ شيء من منطلق مبدإيّ، لأنّ ذلك من حقّها الطّبيعي و الشرعي وليس هوّ منّة ولا هو هبة من أحد. كذلك هوّ مطلوب لأنّه ليس هناك ما يمنعه عقلا ولا نقلا، بل على العكس فإنّ العقل والنّقل يؤكّدانه ويحثّان عليه.
وهو مطلوب أيضا من جهة إقامة العدل الواجب إقامته بين الجنسين. إذ ليس هناك ما يميّز بين الرّجل و المرأة في حق وضرورة التّكريم، و إعطاء الإعتبار، وتنوير العقول ، وضرورة الفعل في المجتمع، من أجل تحقيق التّقدّم والرّقيّ و التحضر على جميع المستويات. وهو مطلوب أيضا من جهة الضّرورة و الحاجة والمصلحة الجماعيّة للمجتمع، في عصر غدت فيه القدرات والمؤهّلات الذّّهنيّة هيّ القيمة النّادرة المبحوث عنها لدورها المركزي في عمليّة إيجاد الوفرة وتحقيق التّقدّم والنّهوض عموما.
فمن هذا الجانب لا يليق بمجتمع عاقل را شد أن يتصرّف تصرّف السّفيه، فيهمل و يهمّش أو يجمّد نصف طاقاته البشريّة، و ما يحمله من قدرات ذهنيّة و إبداعيّة هو في أمسّ الحاجة إليها. والأمر مطلوب أيضا من جهة ضرورة تمكين المرأة، تماما مثل الرّجل، من تحقيق إنسانيّتها و ترقّيها في سلّم قيّمها، و النّهوض للقيام بدورها في المجتمع و في الحياة. و لا يتسنّى لها ذلك إلاّ بفسح المجال أمامها، مثل الرّجل للنّهوض بذاتها و تفطيق طاقاتها و تنميّة مواهبها و قدراتها. وهو مطلوب في الأخير من جهة أنّ المرأة، مثلها مثل الرّجل، مكلّفة في هذه الحياة، ومسؤولة، أصالة عن نفسها وليس الرجل هوّ المسؤول عنها، على وجودها في هذا الكون ومحاسبة عن كسبها فيه، تماما مثل الرّجل. فمن الجور تماما، أن يمكّن الرّجل من فرص التهيّء والكسب بحرّية، بينما هيّ تحرم، قصرا بسبب الظّلم المسلّط عليها، من فرصة تأهيل نفسها لهذا الكسب الذّي ستسأل عنه بمفردها لا محالة يوم السؤال.
إذا كان تحرير المرأة تحريرا صحيحا، أو قل تمكينها من وضعها الطّبيعي الذي خلقت لتكون عليه في المجتمع بشكل تلقائيّ، بهذه الأهميّة و الإلحاحيّة، فما هيّ إذن أسباب إهمالها و اضطهادها و تهميشها تهميشا كاملا، بل وحتّى، في بعض المجتمعات و في بعض الأحقاب التّاريخيّة، اعتبارها، جهلا و ظلما، مخلوقا آخر من غير جنس الإنسان، وهي مخلوقة حسب تصوّرهم السّقيم لخدمته بل ليفعل بها الرجل ما يشاء .
يعود ذلك حسب تصوّرنا إلى عاملين أساسيين هما منطلق بقيّة العوامل الأخرى :
أوّلا ـ غريزة حبّ التّـغـلّـب والتّـفـوّق :
رغم أنّ الإنسان مميّز، عن بقيّة المخلوقات، بملكة العقل والقدرة على التمييز بين الخير والشرّو الإختيار بينهما، وكذلك بالقدرة على التفكير و الإبداع، إلاّ أ نّه يبقى محكوما في بعض أعماله و مواقفه و قناعاته ببعض الغرائز الفطريّة فيه، المتصارعة داخله مع قيمة العقل لديه، التي تتمّم له إنسانيّته، متى تغلّبت عليها هوت به إلى الأسفل، إلى المستوى الحيواني. ذلك لأنّ الحيوان لا يحكمه إلاّ الحسّ و الغريزة. ودور الغرائز لدى الإنسان يبرز و يتضخّم كلّما تقلّص لديه، بسبب الجهل و ظلماته و الجمود وضيق الأفق، دور العقل. ومن بين غرائز الإنسان التّي تقرّبه من الحيوان غريزة حبّ التّغلّب و الهيمنة على الآخر. فهذه الغريزة هيّ التّي تنظّم طبيعة العلاقات و سلّم السّيادة في المجتمع الحيواني. لذلك فنحن نلاحظ أ نّه كلّما كان الحيوان أ قوى وأشدّ فى التّغلّب والإفتراس كلّما كانت هيبته و خشيته بين بقيّة الحيوانات أكبر.
ولمّا كانت المجتمعات البشريّة الضّاربة في جذور التّخلّف و الإنحطاط و التقليد هيّ مجتمعات غريزيّة إلى حدّ كبير، فهي إذن مجتمعات تشبه المجتمعات الحيوانيّة في بعض طبائعها وتصرّفاتها، محكومة ببعض الغرائز و من بينها هذه الغريزة. فهي إذن مجتمعات يسيطر فيها القويّ، بكلّ معاني القوّة، على الضّعيف، بكلّ معاني الضّعف. و كلّما وقع الإنسان ضحيّة لغريزة التّغلّب لدى أخيه الإنسان، كلّما تضخّمت لديه هوّ بدوره دوافع هذه الغريزة، و بحث هوّ من جهته عمّن يسلّطها عليه و يحقّق بها عليه غلبته. والإنسان الجاهل و المتخلّف هوّ مغلوب من طرف أخيه الإنسان ومن طرف الفقر والفاقة ومن طرف قوّة الطّبيعة، وهوغالبا بسبب جهله وتخلّفه وتوحّشه لا يجد عمّن يسلّط غريزة حبّ التغلّب والتّفوّق إلاّ على المرأة من حوله وفي محيطه بعد أن عجز على إنفاذها على غيره خارج بيته ومحيطه.
وهكذا، وربّما بسبب تفوّقه البدني الفيزيولوجي و شدّة توحّشه وقـساوة قلبه، و ربّما لأسباب عدّة و متداخلة أخرى، لم يجد الرّجل، عبر مختلف العصور، أفضل من المرأة كزوجة و كأخت و بنت و أمّ و قريبة، يتّخذها كضحيّة يسلّط عليها دوافع غـريزة حبّ التّغلّب و التّفوّق الكامنة فيه، فيحكم قبضته عليها و يسلّط عليها ظلمه و توحّشه بحجّة العديد من الأعذار والتعلاّت التي لا ينهض لها دليل معقول ولا منقول. نحسب أنّ هذا العامل هوّ أحد أهمّ أ سباب حبّ هيمنة الرّجل على المرأة والإبقاء عليها في وضعيّة الطّرف الضّعيف والمهمّش والتّابع.
ثـانيـّا ـ الجهل عـد وّ الـمرأة الأوّل :
إن كان الجهل هوّ عدوّ الإنسان عموما، فهو للمرأة أ شدّ عداءا. أمّا عداوته للإنسان عموما فحاصل من جهة كونه يحرمه من استغلال قدراته الذّهنيّة، و يحول بينه و بين التّسلّق في سلّم قيّم إنسانيّته، و يتركه مجاورا للحيوان محتكما في معظم الأحيان إلى حسّه و غرائزه. فالجهل ليس شيئا آخر سوى آلة لتعطيل العقل للقيام بمهمّته. و الإنسان، كما سبق أن ذكرنا، ليس إنسانا حقيقة، مميّزا عن الحيوان و بقيّة المخلوقات إلاّ بعقله. فمتى تعطّل هذا الأخير، لم يبق للإنسان شيء كثير يميّزه عن الحيوان. فالعقل هوّ آلة الفهم والتّأمّل و التّمييز والإبداع وصناعة الفكرة والعلم ووعائه. وهو لهذا السّبب ميزة الإنسان ووسيلة ترقّيه في سلّم قيّم إنسانيّته.
والجهل، كما ذكرنا، هوّ أشدّ ضررا و عداءا للمرأة. ذلك لأنّه يضرّ بها مثلما يضرّ بالرّجل. زيادة على ذلك فإنهّ يضرّ بها نتيجة الضّرر المسلّط عليها من قبل الرّجل بسببه. فأنت ترى الرّجل نتيجة جهله و توحّشه، تحمل به المرأة وتضعه ويترعرع في أحضانها و بين ذراعيها، حتّى إذا كبر وصلب عوده قام فقال إنّ المرأة مخلوق آخر غير البشر ودونه في القيمة والكرامة، والرّجل يولد له الذّكر فيقيم الأفراح و الولائم و تولد له الأنثى فيحزن و يتبرّم وجهه و في بعض العصور و الأماكن ذهب إلى حدّ وأدها، متناسيا المرأة هي التي قامت على مختلف مراحل خلقه و ولادته و نمـوّه حتّى استقام عوده. وقد غاب عنه، بسبب جهله وتحجّره، أنّ كلّ الأجناس في الكون من حوله لا تلدها إلا أجناسها و لا تلد إلاّ من أجناسها. وإذا كان الجهل قد بلغ بالرّجل هذا المبلغ من الظلم للمرأة فلا فائدة إذن في الحديث عن بقيّة مظالمه الأخرى لها.
المبحث الأوّل : وضعيّـة المرأة فـي الوطن العربي :
لقد عاش الوطن العربي ، مثله مثل العديد من البلدان المتخلفة الغائبة عن الدورة الحضارية المشابهة له، قرونا طويلة في الظلام الدّامس و الجهل المطبق و الانحطاط الرّهيب. فقد كانت وضعيّة المجتمع فيها وقتها تشبه إلى حدّ بعيد وضعيّة المجتمع البدائي، حيث يسود الحسّ والأهواء و الغرائز، و يغيب فيها العقل وما يمكّنه صاحبه من النظر والتأمّل في سنن الكون وقوانين التطور، والإبداع و التمييز بين الخير والشرّ والصّالح و الفاسد. وكانت سلطة الحاكم ثمّ المستعمر، في تلك العصور، مطلقة، مطارقها تدقّ رؤوس العباد و سياطها تلهب جنـوبهم، دون أن يكون هناك معارض ولا محتجّ ولا حتّى من يرفع رأسه.
كما كان النّاس، في تلك البلدان، في صراع مرير مع الطّبيعة القاسيّة التّي لم تكن تجود عليهم من عطائها إلاّ بالقليل، بسبب بدائيّة وسائل إنتاجهم، و بذورهم المتواضعة في جودتها، وقلّة القطر في بعض السّنين على الأقلّ. فكانوا في معظمهم يشعرون بالإنهزام و الدّنيّة، لا تنصفهم الحياة في أيّ وجه من وجوهها، فيعودون إلى بيوتهم مقهورين يبحثون فيها عمّن يسلّطون عليه جامّ نقمتهم و يحقّقون عليه غلبتهم، عـساهم يخفّفون بذلك عن أنفسهم ما هو واقع بهم من قهر و انهزام، فلا يجدون فيها من مخلوق ضعيف إلاّ المرأة، فيستبدّون عليها و يسلطون عليها أبشع المظالم، ليتذوّقوا بذلك حلاوة طعم الغلبة و التّفوّق الذّان لم يستطيعوا إيجاد طعميهما خارج البيت.
لقد عاشت المرأة في الوطن العربي ، كما في غيرها من الأقطار، لمدّة قرون طويلة، أين يسود الجهل و الجمود و الإنحطاط، في وضع مأسوي، أ شبه ما يكون بوضع العبد عند سيّده، ليست لها كرامة و لا إرادة و لا اعتبار، وليس لها من اهتمام و شغل وتكليف في الحياة إلاّ خدمة الرّجل في البيت و الحقل و إ شباع رغبات غريزته البهيميّة في الفراش و الحمل و الإنجاب و القيام على شؤون البيت. و قد فرض عليها ذلك باسم التّفوّق الطّبيعي المزعوم للرّجل على المرأة، وكذلك باسم العادات والتّقاليد الفاسدة والحفاظ على الشّرف و مراعاة لغيرة الرّجل و إرادة الهيمنة عليها، و غير ذلك من الإعتبارات التّي كانت تنسب كلّها أنذاك، بسبب الجهل، إلى الدّين، و الدّين منها براء.
فقد فرض الرّجل بجهله و انغلاقه و توحّشه و أهوائه على المرأة عنوة القعود في البيت أو العمل في الحقل تحت حراسته المشدّدة، ونبذ الإختلاط و اعتزال مجتمع الرّجال وكلّ ما هوّ مرتبط بذلك من الأنشطة و الإهتمامات العامّة للمجموعة، سياسية كانت أو إجتماعيّة أو إقتصادية أو ثقافيّة أو غيرها، والبقاء في ظلمات الجهل وعدم الخروج من البيت للتّعلّم أو للعمل أو للمشاركة في الإهتمامات العامة للمجتمع، و لا حتّى للتّعبّد. و قد شاع في تلك العصور المظلمة أن المرأة لا يحق لها مغادرة عتبة البيت بعد بلوغها إلا مرتين، مرة عند انتقالها من بيت والديها إلى بيت زوجها و مرة ثانية لانتقالها من بيت زوجها إلى قبرها.
كما حرمت، باسم الدّين طبعا، من اختيار الزوج، شريك العمر، و حتّى من رؤيته قبل الدّخول بها، و حتّى من مجرّد إبداء رأيها فيه و كأنها ليست إنسانا و لا الأمر يعنيها. كلّ ذلك سلب منها، بسبب الجهل و الإنحطاط، وهو من أبسط حقوقها، وأوكل إلى وليّها، و كأنّ الوليّ هو الذي سيتحمّل الحياة مع الزوج وليست هي. ومن فقه أصحاب الأهواء والجهل والإنحطاط أن جعل الطّلاق بيد الرّجال دون النّساء، سيفا مسلّطا على رقبتها، لا تدري متى يهوي به الزوج على رقبتها. أمّا المرأة، و كأنّها ملك للرّجل، لا تملك، في مسألة الطلاق، أمام ظلمه لها في سائر أمور الحياة الزوجيّة إلاّ أن تصبر، أو أن تنتظر حتى يقرّر هوّ أخذ المبادرة في الطّلاق. و في العموم فقد حرمت من حقّ التّظلّم ضد المظالم المسلّطة عليها من قبل الرّجل، أبا كان أو أخا أو زوجا أو غير ذلك، و كأنّه هو السيّد الذي لا يسأل عما يفعل، و المرأة هي عبد الذي لا حول له و قوة، في مجتمع الرّقّ.
لقد اقتصرت مهمّة المرأة، كما ذكرنا، في تلك العصور على إنجاب الأطفال و إشباع الرّغبات الجنسيّة للرّجل، في غير مراعاة في عديد الحالات لمشاعرها و لا حتّى لظروفها الصحّيّة مما يتسبب لها في أضرار بليغة قد تصل بها إلى الموت، و في القيام بأشغال المنزل و تربيّة الأولاد. وكذلك في القيام بالعديد من الأعمال لصالح الرّجل و التّي يترفّع هذا الأخير عن القيام بها. فوضعيتها لم تكن في تلك الظروف وضعية الأنسان المكرم و إنما كانت وضعية الخادم المهان إن لم نقل وضعية العبد.
وفي العموم يمكننا القول إنّ المجتمع االعربي كان، لعصور طويلة قبل استقلال، مجتمعا غارقا في ظلمات الجهل والانغلاق والجمود والإنحطاط والتقليد، ومجمّد الطّاقات. إلى جانب ذلك كان أيضا مجتمعا مشلولا شللا نصـفـيّا. ذلك لأنّ المرأة، كعضو فاعل في المجتمع، كانت في حكم الغائبة تماما، أو قـل بشكل أدقّ، في حكم المغيّبة بالكامل. و لا غرابة أن يكون مجتمع، هذه وضعيّته، مجتمعا معدوم المبادرة و الفاعليّة، خارجا تماما عن الدّورة الحضاريّة. وهو لـشدّة تخلّفه كان يعيش وضعا يشبه الغيبوبة الكاملة، فاقدا للوعي بما كان يحصل حوله من أحداث هامّة ومن اكتشافات علميّة و فنّيّة مذهلة. كما كان لـشدّة ضعفه وتخدّره، ليست له القدرة حتّى على الدّفاع عن نفسه وصدّ الضرّ عنها. وهو ما جعله يسقط بسهولة في شراك الإستعمار الغاشم و يبقى تحت هيمنته و مهانته ثلاثة أرباع القرن.
المـبحث الثّـاني : وضعيـّة المـرأة فـي الوطن العربي بعد الاستقلال:
لقد كانت المرأة العربية أوّل المستفيدين من الإستقلال. ذلك أنّ هذا الحدث كان لها بحقّ استقلالا. فهذا الأخير لم يكن فقط تحريرا للبلاد من هيمنة المستعمر الأجنبي، إنّما كان أيضا تحريرا نسبـيّا للمرأة من ظلمات الجهل و هيمنة الرّجل عليها، وكذلك من سلطان العادات و التّقاليد الفاسدة. لقد كان بورقيبة، رغم تحفّظنا الشّديد على العديد من آرائه و سياساته و إنجازاته في ظلّ الدولة التي ركّزها، محقّا إلى حدّ بعيد في سياسته التّي انتهجها تجاه المرأة، لولا بعض الأخطاء و الشّطط كما سنبيّنه لاحقا. لقد كان في هذه المسألة متقدّما على عصره أجيالا، بالمقارنة لما عوملت به المرأة في معظم البلاد الإسلاميّة بشكل عامّ.
وقد مكّنت بداية إصلاح وضعيّة المرأة في الوطن العربي من فتح الباب واسعا لمعالجة حالة الشّلل التّي كانت تعيق جسم المجتمع في البلاد، و ساهمت في تحرير طاقات هائلة، كانت قبل ذلك مجمّدة أو مغمورة. ولا تزال طاقات كبيرة أخرى مجمّدة، يجب الإسراع بتحريرها، و ذلك بمواصلة تحقيق مزيد الترشيد لوضعيّة المرأة في المجتمع. و لم تكن كلّ الطّاقات المحرّرة من جانب المرأة فحسب، و إنّما كان جزء منها من جانب الرّجل في حدّ ذاته، أو من جانبه بسبب تأثير تحرير المرأة إيجابـيّا عليه.
فالمرأة المحرّرة و المتعلّمة كأمّ و زوجة و حاضنة، كان لها التـأثير الإيجابي البليغ على الرّجل و تكوينه و وعيه وتربيّته وجدواه على جميع المستويات في المجتمع. ونرجو أن لا نكون مخطئين إذا اعتبرنا أنّ فاعليّة الفرد في الوطن العربي و حيويّته وإبداعه وعطائه، هيّ من أفضل ما هوّ موجود في الدّول و المجتمعات المشابهة التّي لم تشهد المرأة فيها من العناية و التحرير وإعطاء الإعتبار، ما شهدته في الوطن العربي في هذا الجانب. ونحسب أنّ النّهوض بالمرأة على علاّته قد ساهم بقسط وافر في تحسين مردود الفرد عموما في المجتمع العربي...
وقد اعتمد النّظام العربي في إصلاحه لوضعيّة المرأة الوسائل التّاليّة :
أ وّلا ـ التعليم :
إنّ أهمّ إنجاز، بدون منازع، هوّ تعميم التعليم، و ذلك رغم ما شابه من نقائص و محدوديّة، فهو لم يكن تعميما كاملا للتعليم بكلّ ما تعنيه العبارة من معنى، كما أنّ برامجه لم تكن بالمستوى المرجوّ و عانت من نقائص عدّة منذ انطلاقتها إلى حدّ الآن. لكن رغم ذلك فإنّ ما حصل في الوطن العربي في المجال التعليمي يعتبر إنجازا. و إذا كان العلم يعتبر، منذ القديم، نورا و الجهل ظلمات، فإنّ العلم أيضا، كان و لا يزال، عتقا و الجهل سجنا. أمّا في هذا العصر فيضاف إلى ذلك أنّ العلم غدا تقدّما و ثراء، و الجهل غدا أيضا تخلّفا و انحطاطا و فقرا. ان الوطن لا يملك من الثّروات المحوّلة وعوامل الانتاج إلاّ القليل المتواضع، لا يمكنه أن ينهض و يتحوّل إلى بلد غنيّ متقدّم إلاّ عن طريق العلم و التّعلّم والمراهنة عليهما والتضحيّة بكلّ الطّاقات من أجل كسبهما. فإن كان الشعب الجاهل حملا مرهقا فإنّ الشعب المتعلّم والمفتّق الطّاقات هوّ محرّكا قويّا نحو التّقدّم والرّقيّ وكلّ الخيرات.
أمّا بالنسبة للمرأة، فقد مكّنها تعميم التّعليم، و لو جزئيّا بقدر استفادتها منه، من تنوير ذهنها و تفتيق طاقاتها و قدراتها التّي كانت بالأمس مجمّدة، مثلها في ذلك مثل الرّجل، و من توعيّتها بدورها في المجتمع و في الحياة عموما، ومن الشّعور بقيمتها وبثقتها في نفسها، كما وعّاها بحقوقها و بكونها شريكة للرّجل، ليس فقط في تحمّل أعباء الحياة العائليّة، و إنّما أيضا هيّ شريكة له في عمليّة النّهوض بالمجتمع نحو التّقدّم و الرّقيّ. إذن فالمرأة، في البيت كما في المجتمع عضو فاعل و شريك، مثلها مثل الرّجل، وليست خادمة تابعة له. و لم يحصل الوعي بهذه المسائل بمجرّد اتّخاذ القرارات و وضع القوانين، و إنّما حصل بالأساس بالتربيّة والتعليم.
وتجربة تعميم التعليم ساهمت في تحسين وضعيّة المرأة و لم تعالجها علاجا كاملا. ذلك لأنّه لم يكن، بالنسبة لها، كذلك إلآّ نظريّا. أمّا على مستوى الواقع فهناك عديد العوائق، التي سنتطرّق لها لاحقا، قد حالت دون تعميم التعليم، وذلك خاصّة بالنسبة للمرأة. و يعود ذلك، كما ذكرنا إلى عديد الإعتبارات، منها قوى التّزمّت والإنغلاق والجذب إلى الخلف، في البوادي و الأرياف وحتّى على أحزمة الفقر في المدن الكبرى التّي حالت دون التحاق العديد من الفتيات بالمدارس. كذلك الفقر و الأوضاع المزريّة التّي كانت تعيشها نسبة مرتفعة من العائلات حالت دون استمرار أعدادا كبيرة من الفتيات في مواصلة دراستهنّ وأجبرن على الانقطاع المبكّر عن الدّرا سة.
كذلك، من تلك الاعتبارات قلّة المدارس المتوفّرة وبعد الموجودة منها عن مواقع السّكن، في الأرياف خاصّة، ترك العديد من الأهالي يمتنعون على إرسال بناتهنّ إلى المدارس خوفا عليهنّ من مفاخآت الطّريق غير الآمنة. ويمكننا القول إنّ المجتمع التّونسي، خاصّة في الفترة الأولى التّي تلت الإستقلال لم يكن، من أكثر من وجه، مهيّأ لتحقيق شعار تعميم التعليم كاملا غير منقوص.
على هذا الأساس فنحن نعتبر شعار تعميم التعليم لم يتحقّق بعد في الوطن العربي، و لا يزال قائما ينتظر التحقيق. و ما لم يطبّق تطبيقا كاملا و صحيحا فإنّ فوائده تبقى منقوصة. و نعني بالتطبيق الكامل أن يشمل كلّ الأطفال و الشّباب في سنّ التعليم، ذكورا وإيناثا، في كلّ مكان في تونس، في الأرياف و البوادي، و القرى والمدن بدون استثناء. ونعني بالتطبيق الصّحيح، مساعدة كلّ أولئك أن يتقدّموا شوطا مناسبا في مواصلة تعليمهم، يقطعون بواسطته نهائيّا مع الأميّة و يربطون به مع القراءة و الكتابة بدون حدّ و لا صعوبة، و مع الفهم و القدرة على النّقد. هذا في الحدّ الأدنى، على أن توضع كلّ التسهيلات لتمكين أكبر عدد ممكن من الجنسين، على السّواء، من مواصلة دراستهم إلى أعلى المستويات. و ذلك إذا توفّرت لهم المواهب و القدرات الذهنيّة التي تمكّنهم من ذلك.
وهكذا فنحن نعتبر تعميم التعليم، كمّا و كيفا، وسيلة أساسيّة لا يمكن التهوين من قيمتها و لا التقصير في تحقيقها، ومن أجل تفتيق المواهب و القدرات و تحرير الطّاقات البشريّة الهائلة، و خاصّة منها تلك الكامنة لدى المرأة، و كذلك من أجل تحقيق نهضة البلاد و تقدّمها ماديّا و معنويّا. ذلك لأ نّه لا يمكن لتونس أن تتحوّل إلى صفّ الدّول المتقدّمة و المتحضّرة ما لم تقضي قضاء مبرما على الجهل و الجمود و تقبل جماعيّا على التعليم و التربيّة و حبّ التّرقّي في سلّم المعرفة وكسب العلم والخبرات والمهارات.
وقد مثّل تعليم المرأة، و النّهوض بها معرفياّ و تنوير ذهنها و تحرير طاقاتها و قدراتها الهائلة، الخطوة الأساسيّة الأولى التي فتحت أمامها الباب لتعي بحقوقها و بمكانتها المركزيّة في المجتمع و بضرورة أن تكون عضوا فاعلا فيه، ناهضا لتحقيق أهدافه، مثلها مثل الرّجل.
ثـانيّـا ـ التشـريـع :
لم يكن دور التعليم والتربيّة ثانويّا في موضوع تحرير المرأة والنّهوض بها وتنوير ذهنها وتوسيع وعيها وتحرير قدراتها و طاقاتها و تقويّة مكانتها في المجتمع، بل على العكس كان أساسياو فعّالا. إلاّ أنّ النظام العربي لم يكتف بذلك في مشروعه النّسوي. وإنّما عضّده بثورة تشريعـيّة في هذه المسألة، من خلال مجلّة الأحوال الشخصيّة الجديدة التّي وضعها.
ثـالثـا ـ تشريك المرأة إلى جانب الـرجل فـي المـعترك اليـومي للحياة :
بقيت المرأة العربية، خارجة تماما عن كلّ مجالات الحياة اليوميّة العامّة للمجتمع، من إقتصاديّة واجتماعيّة و ثـقافيّة و خاصّة سياسية. و بقيت رغم أنفها متـفـرّغة لخدمة الحياة العائليّة الخاصّة في البيت و معاونة الرّجل في العمل الفلاحيّ في الحقل. أمّا ترتيب الحياة العامّة للمجتمع من كلّ جوانبها و على كلّ مستوياتها فحرمت منه، و بقي من شأن الرّجل وحده. و هكذا فقد حرم المجتمع أنذاك، في تسيير شؤونه و تحقيق تنميّته و تقدّمه، من مجهود و طاقات نصف أعضائه.
أمّا بعد ، و نتيجة لما اكتسبته المرأة تدريجيّا من معرفة و علم و تكوين في العديد من الفنون و مجالات، تنوّر بها ذهنها و تحرّرت بها طاقاتها ومواهبها، و شعرت بواسطتها بقيمتها في المجتع، التّي لا يمكن في الحالة الطّبيعيّة أن تختلف عن قيمة الرّجل. و كذلك نتيجة للثورة التّشريعيّة التّي وضعت حدّا المظالم التيّ كانت مسلّطة عليها، خلال عصور الإنحطاط، وضمنت لها حقوقها و بيّنت لها واجباتها. ثمّ أيضا نتيجة للإرادة السّياسية القائمة، التّي شجّعتها كثيرا على اقتحام مجلات الحياة العامّة والمشاركة، إلى جانب الرّجل، في المعترك العملي اليومي للمجتمع.
لقد حاولت المرأة العربية، نتيجة ما ذكرنا من اعتبارات و تشجيعات، التوفيق بين العناية بشؤون عائلتها وبيتها والخروج إلى ساحة المجتمع لتشارك، إلى جانب الرّجل، في معترك الحياة العامّة، فتقلّدت مختلف المهامّ و الوظائف حسب قدراتها وكفاءاتها. وقد تحوّلت المرأة العربية بذلك من موقع الإهمال والتهميش والتغييب و التّبعيّة للرّجل إلى مستوى المرأة الإنسانة المكرّمة و المسؤولة على أعمالها و مصيرها و المساهمة من موقعها في تحقيق الأهداف الكبرى للمجتمع. وقد أصبحت بذلك عضوا فاعلا و شريكا للرّجل بعد أن كانت، لقرون طويلة، كائنا مهمّشا تابعا له.
ورغم أنّ ما حقّقته المرأة، في الوطن العربي، من انعتاق و تحرّر و كرامة و اعتبار، ليس له ما يعادله في بقيّة البلاد العربيّة، فإنّ هذا الإنجاز بقي منقوصا، يشكو من عديد السلبيّات و التي نذكر من بينها ما يلي :
أوّلا ـ عائـق الجهل و التـّخـلّف و الفقر :
إنّ الأعمال التغييريّة و الثورات الإصلاحية، مهما كانت جدّيتها و شدّة الحاجة لها، فإنّها لا تستطيع أن تحصل بسهولة في المجتمعات التقليديّة المنغلقة. و غالبا ما تصطدم بالمعارضة و الرفض من قبل قوى الجمود و التقليد في تلك المجتمعات. أي أنّه بقدر ما تكون في المجتمع قوى لصالح ذلك التغيير ناهضة له و مصمّمة عليه، بقدر ما تبقى فيه قوى رافضة له، ناشطة، عن وعي أو عن غير وعي، في منعه أو على الأقـلّ، في تعطيله. ولا يخفى علينا ما كان يعيش عليه المجتمع العربي، من جهل مطبق و من تخلّف رهيب ومن جمود وتشبّث بالعادات و التّقاليد الصّالحة منها والفاسدة على السّواء.
وقد ترك ذلك الوضع السيئ، الذّي كان يعيش عليه المجتمع العربي، شريحة واسعة من الشعب، خاصّة في أعماق البوادي والأرياف و القرى، تتمسّك بما هوّ موجود، في ذلك الوقت، تعترض على ذلك التغيير بخصوص وضعيّة المرأة اعتراضا شديدا، معتبرة إيّاه من الفسوق و الخروج عن الملّة، و ترفض إرسال البنات إلى المدارس، حفاظا منها بذلك على الشّرف و الأخلاق الحميدة و ما أمر به الدّين. و هناك فريق آخر، رغم اقـتـناعهم بتعليم المرأة و تنوير ذهنها و تحرير طاقاتها، أجبرهم الفقر المدقع و قـلّة ذات اليد على عدم إرسال بناتهم إلى المدارس، تجنّبا لنفقات هم غير قادرين عليها من ناحيّة، ولكي يستعينوا بهنّ في أعمالهم الفلاحيّة أو في صناعاتهم التقليديّة التّي يتعاطونها في منازلهم ، و تدرّ عليهم شيئا من الربح يحسّن لهم مداخيلهم المتواضعة.
وهناك فريق ثالث ليسوا معترضين على تعليم البنات، ولا على تحرير المرأة و تمكينها من حقوقها الطّبيعيّة و من مكانتها في المجتمع، ولا تعوزهم الحاجة، إلاّ أنّ أبناءهم سرعان ما انقطعوا عن المدرسة بعد أن التحقوا بها، و ذلك بسبب الجهل المطبق الذّي تعيش عليه عائلاتهم، وهو ما حرمهم من توفّر الحدّ الأدنى من الحوافز المعنويّة، في البيت من طرف العائلة، التّي تمكّنهم من الإقبال على الدّراسة و العناية بها و الحرص على مواصلتها، خاصّة و أنّ النّجاح في ذلك يتطلّب تظافر الجهود من جانب المدرسة و البيت في وقت واحد. ولا شكّ أنّ عدد الأطفال الذّين انقطعوا عن دراستهم و لم يقدروا على مواصلتها، ليس بسبب الفـقـر و الحاجة، و إنّما بسبب انعدام الحدّ الأدنى من الظّروف المعنويّة المناسبة، التّي تعينهم على ذلك في البيت، كبير جدّا.
ونحسب أنّ هذا العائق قد تقلّصت خطورته اليوم على المضيّ قدما في عمليّة التربـيّة و التعليم ، خاصّة في ما يخصّ البنات. إلاّ أ نّنا نخشى أن تكون هناك عوائق جديدة قد حلّت محلّ القديمة، من مثل تفجّر العائلة بكثرة حالات الطّلاق، قد غدت تهدّد التّوازن النفسي للأطفال في تلك العائلات، و خاصّة منهنّ البنات لرهافة نفسيّاتهنّ و شدّة تأ ثّرهنّ بالمشاكل العائليّة، وأصبحت تهدّد قدرتهم على مواصلة دراستهم بنجاح وفي ظروف طبيعيّة.
ثانيّـا ـ خـلل النّـظام التـّربـوي :
لقد رفع النّظام العربي شعار تعميم التعليم. ثمّ بذل جهدا كبيرا في تحقيق ذلك الشّعار في الواقع. و قد تحقّقت نتائج طيّبة في هذا المجال، لم يتحقّق مثلها في عديد من البلدان ممّن تتمتّع بإمكانيّات ماديّة تفوق بكثير ما هوّ متوفّر لبلادنا. و كان بالإمكان أن تكون تلك النّتائج أحسن بكثير ممّا كانت، لوكانت برامج و مادّة النـّظام التربوي مركّزة و موفّقة أكثر ممّا كانت. فإذا كانت هذه البرامج قد لقّنت المتعلّمين، في معظم الأحيان بأسلوب سرديّ يفتقر إلى المنهجيّة النّقديّة، علوما و معارف، إلاّ أ نّـها لم تكسبهم من الجانب التّربوي شيئا يذكر. و قد أدرك واضعوها، بعد مدّة وجيزة نقصها و قصورها، إلاّ انّهم عجزوا على إصلاحها. و بقيت تتخبّط بين الإصلاح و الذّي يليه، دون أن يستقرّ أمرها على خطّ سويّّ.
و قد أثّر هذا الإهتزاز في البرامج التعليميّة و التربويّة التّي بقيت مذبذبة بين توجّه و نقيضه، لا يوحّد بينها إلاّ خطّها المستورد الغريب عن أرضيّتنا العربيّة الإسلاميّة و طبيعة مجتمعنا العربي، على برامج إصلاح وضعيّة المرأة و تنوير عقلها وتحرير قدراتها و طاقاتها. فعوضا أن يحصل لها ذلك في إيطار ذاتيّتنا الحضاريّة و الثّقافيّة، حصل لها في إيطار مذبذب ومخلوط، شوّش عليها تحرّرها وأفقدها خلاله توازنها.
والسّبب في ذلك حسب رأينا هوّ أنّ واضعي تلك البرامج كانوا تائهين في وله الأنموذج الغربي إلى الثّمالة، و لم يكن يحضر في تصوّرهم إلاّ ذلك الأنموذج. فعوض أن تركّز تلك البرامج في مسألة تحرير المرأة على تنوير عقلها و تكوين العقل النقدي لديها و تمكينها من ثقتها في نفسها و إ شعارها بقيمتها الأساسيّة في المجتمع و بدورها المركزي الذّي يجب عليها أن تلعبه فيه، و في مثل هذه الأمور لا يضرّ أن نستعير و نقتبس ممّا أنتجته الإنسانيّة، في الشرق و الغرب على السّواء، من فكر ووسائل ومناهج. أمّا ما هـوّ متعلّق في تلك البرامج من قيّم تربويّة و عقديّة ومن آداب التعامل و نظام حياة الأسرة و ما إلأى ذلك، كان من تراثنا الفكري و الثّقافي الذّاتي بالأساس، مصحوبا، في أبعد الحالات، بمادّة مقارنة تعين على التحصين و إنضاج ملكة العقل النقدي.
وقد تسبّب لنا ذلك، في النّهاية، في تحرير للمرأة مشوّه و مهزوز و منبتّ، يتصارع فيه الأنموذج الغربي للمرأة المحرّرة والمكرّمة والمعتبرة، في إطار مقوّمات مجتمعاتها الثّقافيّة و الحضاريّة، و الأنموذج العربي الإسلامي و ما يتميّز به بالأساس من بعد أخلاقي عميق و من بعد جماعي. فواضعو البرامج التعليميّة أهملوا طبيعة المجتمع عند وضعهم للبرامج، و كان من واجبهم لو فقهوا أن لا يفعلوا و أن لا يخلطوا بين الأدوية على المريض، و أن لا يضعوا له في الوصفة ما يضرّ بطبيعة بدنه مثلما فعلوا.
أمّا اليوم فلهذا السّبب و لغيره من الأسباب، تتأكّد مسألة إصلاح البرامج التعليميّة و التربويّة، إ صلاحا يجب أن يراعى بموجبه هذا الجانب الأخير الذي كنّا بصدد التأكيد عليه، حتّى نقضي على جوانب الإختلال و الإهتزاز و التّذبذب التي أوجدته تلك البرامج لدى الفرد العربي، و خاصّة لدى المرأة، فأضرّ بالعديد من الجوانب في حياتها و في حياة العائلة، النّواة الأساسيّة في المجتمع، و في حياة المجتمع و توازناته عموما. ولا ننسى أنّ الذي نريده هوّ إمرأة محرّرة ومسؤولة و فاعلة و ليس إمرأة متمرّدة ومبتذلة.
ثـالثـا ـ التشريع المتشنّج :
لقد وضعت التشريعات الجديدة المتعلّقة بالأحوال الشّخصيّة، و بالمرأة عموما، بعقليّة متوتّرة أو تحت ضغط عقليّة متوتّرة. بينما كان من الواجب أن يوضع هذا التّشريع بعقليّة هادئة مترنّحة و متجرّدة عن كلّ الإعتبارات الجانـبـيّة. و القوانين كما هوّ معلوم لدى الجميع لا توضع ولا تطبّق تحت التّشنّج أو الغضب. لقد وضع هذا التشريع تحت تأثير عقليّة الأخذ بالثأر، للمرأة من الرّجل. و من النّتائج السّلبيّة، لهذه المنهجيّة الخاطئة، أن وقع هذا التشريع في الشّطط، و جاء مهتزّ الأطراف. في حين كان من الأجدى أن لا يحصل الأمر بذلك الشكل. لأنّ المرأة ليست نقيضة الرّجل و لا عدوّته، و أنّما هيّ أخت له و شريكة له في الحياة و في تواصل النوع البشري. و الضّرر بأيّ منهما هوّ ضرر بالثّاني أيضا.
ومسألة تحرير المرأة كانت تتمثـّل في إيجاد العلاج للوضعيّة السيّئة للمرأة، و ليس في حلّ لمشكلة بإيجاد مشكلة أخرى مكانها، ربّما أشدّ خطورة من سابقتها. و قد كان من الأجدى لو وضعت التشريعات المعينة المقنّنة لتحرير المرأة و تكريمها والرّفع من شأنها في إطار التّكامل بينها و بين الرّجل و ليس كما حصل، ضمن المشروع العربي ،
رابــعـا ــ تأخـّر عمليّـة التربـيّة و التكويـن عن عمليّة التـّشـريع :
إنّ التشريعات الثوريّة إذا وضعت قبل تهيئة الأرضيّة لها، تبقى مهدّدة بالفشل، أو على الأقـلّ فإنّها تجد صعوبات جمّة، على طريق إنزالها و إنفاذها في الواقع. و إذا ما طبّقت فإنّ نتائج تطبيقها لا تكون بالمستوى المطلوب. وهذا ما حصل بالضبط للعديد من التشريعات الجديدة في الوطن العربي ، و على وجه الخصوص، تلك التّي تتعلّق منها بالمرأة.
خـامسـا ـ لـوثة الإنتهـازيـّة و الإسـتغـلال :
لمـّا ينظر الدّارس و يتأمّل في الشّعارات التّي رفعت، بخصوص مسألة تحرير المرأة، وفي القوانين التّي شرّعت من أجل ذلك، ثمّ إلى الواقع الذّي عرفته المرأة ، يدرك بوضوح أنّ السّياسة العربية تجاه المرأة كانت سياسة انتهازيّة استغلاليّة و ليست مبدئيّة صرفة.
المـبحـث الثّـالث : المـرأة الّتـي نـريـد :
ما نريده للمرأة ليس العودة إلى الوراء، لأنّ العقل السليم يأبى ذلك، و لأن سنة التطورفي الحياة هي الأخرى تأبى ذلك أيضا. إنّما الذي نريده هوّ تصحيح لخطّ التّوجّه، بما يتناسب و خصوصيتها و مع ذاتيّتنا الثّقافيّة و سلّم قيّمنا و مع الموقع المحوري الذي يجب أن تحتله في المجتمع، ثمّ المضيّ قدما إلى الأمام في تفعيل قدرات المرأة و تجذير موقعها المركزي في المجتمع. إنّ الذي نريده للمرأة، كما للرّجل، ليس هوّ تحرير الغرائز و سلطان الشّهوات، و لا تحرير مظهري قشري، و إنّما الذي نريده هو تحرير حقيقي للعقول و المواهب و القدرات. و ما نريده للمرأة، كما للرجل ليست حداثة مستوردة تضرر منها أصحابها، و إنما حداثة ذاتية أصيلة مراعية لقيمنا و لخصوصياتنا الثقافية و الحضارية.
أول ما نريد التنبيه إليه على هذا المستوى هو أننا لا نعتبر وضع المرأة الغربية مثالا لنا يجب أن نجعله هدفا لنا. ذلك لأنها حتى إذا كانت وضعيتها قد أصبحت مثلى أو حتى مرضية بالنسبة لأهلها، فهي ليست كذلك بالنسبة إلينا و إلى محيطنا وطبيعة مجتمعنا، وتبقى دائما ضعفية غريبة عن محيطنا و ذاتيتنا. ولسنا نحسب أن التوجه الغربي هو الذي يمكن أن يشد انتباهنا في هذه المسألة. بل نحن نرى كدارسين أن وضعية المرأة في الغرب، رغم ما حققته من مكاسب عدة ليست غائبة عنا، قد انحرفت منذ أمد بعيد. فإذا كانت المرأة الغربية قد حققت مكاسب عدة على بعض المستويات، خاصة منها مستوى الحياة العامة، فقد وقعت في سلبيات عدة قيمية حولتها إلى عامل و بضاعة متعة تباع و تشترى، و عامل إنتاج و كسب للثروة أكثر من الرجل، و أفقدتها إلى حد بعيد خصوصيتها كضامنة لتواصل النوع البشري.
وقد أصبحت وضعية المرأة الغربية محطة، حتى من المنظور الغربي نفسه، من أكثر من جانب. وهي في حاجة ملحة للعلاج العميق، قبل أن ينظر إليها كمثال وهو ما جعل العديد من الجمعيات النسوية و العديد من التيارات الفكرية تنهض للدفاع عن الحقوق المسلوبة للمرأة و عن كرامتها المهدورة كإنسان مكرم. و لا يفوتنا أن نلاحظ بالمناسبة أن النظم الماركسية قد حققت تقدما ملحوظا في مجال المساواة بين المرأة و الرجل. إلا أن هذه النظم كما هو معلوم لا تولي أي اعتبار لسلم القيم الإنسانية التي يجب أن تحكم العلاقة الرابطة بين المرأة و الرجل.
وبسقوط تلك النظم في الإتحاد السوفياتي سابقا وفي دول أوروبا الشرقية انتكست وضعية المرأة في عديد المجالات. وتسببت صعوبة التحول إلى الرأسمالية و تفشي البطالة و الفوضى والفقر لشرائح واسعة جدا من النساء في تلك البلدان إلى الوقوع في آتون الرذيلة و في ما يشبه وضعية الرق. ونحن واعون في نفس الوقت بأن النظام البورقيبي، ثم النظام الذي خلفه، وقع في خطإ النظر إلى أنموذج المرأة الغربية كمثال يجب السعي إلى تحقيقه في بلادنا، حاذفين منه العديد من إيجابياته ومحافظين على كل سلبياته و مضيفين
الاستاذ/نعمان عبد الغني